الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***
بسم الله الرحمن الرحيم وقد سميته كتاب الرائض في الفرائض فمن أراد أن يفرده أفرده فإنه حسن في نفسه ينتفع به في المواريث نفعا جليلا إن شاء الله تعالى. والفرائض جمع فريضة مشتقة من الفرض الذي جمعه فروض، والفرض لغة التقدير من الفرضة التي تقع في الخشبة وهي مقدرة، والمواريث جمع ميراث مشتق من الإرث، قال صاحب كتاب الزينة: وهي لغة الأصل والبقية، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - "اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام" أي على أصله وبقية شرف منه، قال الشاعر: عفا غير إرث من رماد كأنه حمام بألباد القطار جثوم أي بقية من رماد بقي من آثار الديار، والميراث أخذ من ذلك؛ لأنه بقية من سلف على خلف، وقيل لمن يحويه وارث، والعلماء ورثة الأنبياء لأن العلم بقية الأنبياء، والله سبحانه وارث لبقائه بعد خلقه حائزا لما كان في أيديهم{وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} فلا يتخيل أن الإرث هو انتقال المال عن القرابة ونحوها فتكون هذه المواضع مجازات لغوية، بل حقائق لغوية لاشتراكها كلها في البقية والأصل، نعم انتقل اللفظ في العرف لانتقال المال والحقوق المخصوصة عن القرابة ونحوها، فتكون هذه المواضع في حق الله تعالى ووراثة العلماء الأنبياء مجازات عرفية لا لغوية، وقيل: سميت اليهود التوراة إرثا؛ لأنهم ورثوه عن موسى - عليه السلام -. وهذا العلم من أجل العلوم وأنفسها، قال عليه - الصلاة والسلام -: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في فريضة فلا يجدان من يفصل بينهما "، وقال - عليه السلام -:" تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها نصف العلم، وأجمعت الأمة على أنه من فروض الكفاية واستوفت الصحابة - رضوان الله عليهم - النظر فيه وكثرت مناظراتهم وأجوبتهم وفروعهم فيه أكثر من غيره، فمن استكثر منه فقد اهتدى بهديهم - رضي الله عنهم - وقال عمر - رضي الله عنه -: " إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض، وإذا لهوتم فالهوا بالرمي ". سؤالان: جعل - عليه السلام - هذا العلم نصف العلم، وعنه - عليه السلام - حسن السؤال نصف العلم وبقيت أمور كثيرة من العلم، والشيء لا يكون له أكثر من نصفين، وثانيهما مسائله قليلة بالنسبة إلى الفقه فضلا عن العلم، فكيف يجعل أقل الشيء نصفه. والجواب عن الأول: أن المراد المبالغة حتى كأنه لجلالته نصف كل ما يتعلم، قال عليه السلام: التودد نصف العقل والهم نصف الهرم والتدبير نصف العيش، مع حقارة هذه الأمور بالنسبة لما معها فيما نسبت إليه، وإنما المراد المبالغة في الثناء على عظيم جدواها ومصلحتها، وقد ورد هذا السؤال على بعض الفرضيين، وكان قليل البضاعة في التصرف، فسكت ساعة، وقال: الجواب أن العلم دخله العول فعال بمثله مرات كثيرة فلم يجد إلا ما هو متكيف به من اصطلاحات الفرضيين. والجواب عن الثاني: أن أحوال الإنسان قسمان: قبل الوفاة، وبعد الممات وهذا العلم خاص بما بعد الممات فجعل نصفا، وهو يدل على نفاسته، فإن الشيء إذا قل حجمه وكثر نفعه ساوى الكثير الحجم القليل النفع بالنسبة إليه كالجوهر بالنسبة إلى الحديد وسائر المعادن. سؤال: علم الوصايا متعلق بما بعد الموت، و{كذلك} أحكام الكفن والغسل والصلاة على الميت، فلا يكون علم الفرائض وحده المختص بما بعد الموت، بل بعض النصف. جوابه التزم جماعة أن الوصايا وما معها إنما توضع في كتاب الفرائض وأنها من جملتها، فاندفع السؤال، أو أن الوصايا ليست بلازمة لكل ميت متمول فقد لا يوصي بخلاف الإرث، أو لأن أحكام الوصية في مشروعيتها والرجوع عنها وغير ذلك إنما يكون في الحياة وبعد الموت التنفيذ، وأسبابها وجل أحكامها في الحياة، والغسل وما معه إنما يجب على الأحياء فهي من حالة الحياة، أو يلزم ذكرها في علم الفرائض، أو المراد انقسام حال المال لنصفين، وهذه أحكام بدنية لا مالية، وفي هذا الكتاب قسمان. القسم الأول في الأحكام اثنا عشر بابا: والفرضيون خلفا وسلفا يقولون: أسباب التوارث ثلاثة، وهو مشكل؛ لأن المراد بالثلاثة إما الأسباب التامة أو أجزاء الأسباب، والكل غير مستقيم، وبيانه أنهم يعلون أحد الأسباب القرابة، والأم لم ترث الثلث في حالة والسدس في أخرى بمطلق القرابة، وإلا لكان ذلك ثابتا للابن أو البنت لوجود مطلق القرابة فيهما، بل بخصوص كونها أما مع مطلق القرابة، وكذلك للبنت النصف ليس بمطلق القرابة وإلا لثبت ذلك للجدة أو الأخت للأم، بل لخصوص كونها بنتها مع مطلق القرابة، فحينئذ يكون لكل واحد من القرابة سبب تام يخصه مركب من جزأين من خصوص كونه بنتا أو غيره وعموم القرابة، وكذلك للزوج النصف ليس لمطلق النكاح، وإلا لكان للزوجة لوجود مطلق النكاح فيها، بل للخصوص والعموم كما تقدم، فسببه مركب، وكذلك الزوجة. إذا ظهر هذا فإن أرادوا حصر الأسباب التامة في ثلاث فهي أكثر من عشرة لما تقدم، أو الناقصة التي هي الأجزاء فالخصوصيات كما رأيت كثيرة، فلا يستقيم الحصر مطلقا لا في التام ولا في الناقص، فتنبه لهذا فهو حسن لم يتعرض فيما رأيت أحد له ولا لخصه. واعلم أن أسباب القرابة التامة وإن كثرت فهي لا تزيدها، ولا تزيد الناقصة التي هي الخصوصيات، بل الناقصة التي هي المشتركات لمطلق القرابات ومطلق النكاح ومطلق الولاء، والدليل على حصر النواقص في هذه الثلاث أن الأمر العام بين جميع الأسباب التامة إما أن يمكن إبطاله أولا، فإن أمكن فهو النكاح يبطل بالطلاق، وإن لم يمكن فإما أن يقتضي التوارث من الجانبين غالبا وهو القرابة، أو لا يقتضي إلا من جانب واحد وهو الولاء يرث المولى الأعلى الأسفل، ولا يرثه الأسفل قولنا غالبا احترازا من العمة، فإنها يرثها ابن أخيها ولا ترثه، وسيأتي ضابط من يورث ولا يرث. فرعان الأول: اتفق الناس أن المطلقة الرجعية ترث وتورث في العدة، وقع الطلاق في المرض أو الصحة، واتفقوا أن المطلقة في المرض طلاقا بائنا أنها لا تورث، فإن مات زوجها فورثها مالك وأهل العراق مؤاخذة له بنقيض قصده كالقاتل، وقال جماعة: لا ترثه، وورثها مالك بعد العدة وإن تزوجت، وخصه (ح) بالعدة، وابن أبي ليلى ما لم تتزوج. لنا قضاء عثمان في زوجة عبد الرحمن بن عوف لما طلقها في المرض بمحضر الصحابة - رضي الله عنهم - ولم ينكر عليه أحد إلا عبد الرحمن إلا أنه محكوم عليه فلا يعتبر رضاه. الثاني: أن الأنبياء - عليهم السلام - لا يورثون خلافا للرافضة، ورأيت كلاما للعلماء يدل ظاهرة على أنهم لا يرثون أيضا. لنا قوله - عليه السلام - "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقه" ومن جهة المعنى أن الملك العظيم يعطي عامة رعيته للتمليك لا للصرف على غيرهم، ويعطي خاصته للصرف لا للتمليك فالأنبياء - عليهم السلام - خزان الله وأمناؤه على خلقه، والخازن يصرف لغيره وله ما تدعو إليه ضرورة حياته، وهو المناسب في أمر الله تعالى إياهم بالزهادة والإعراض عن الدنيا، وإذا كانوا خزانة والخازن لا يورث عنه ما يخزنه، احتجوا بقوله تعالى:{وورث سليمان داود} وبالقياس على غيرهم. والجواب عن الأول: أن الموروث العلم والنبوءة لقوله - عليه السلام - العلماء ورثة الأنبياء. والجواب عن الثاني: أنه فاسد الاعتبار لمقابلة النص. فرع: في التلقين لا تثبت أنساب الأعاجم بأقوالهم لأنهم يتهمون في إزواء المال عنا. وهذا الباب لم ينص عليه باسم الشروط أحد ممن رأيت، بل يذكرون الأسباب والموانع دون الشروط، وفي أبواب الفقه يذكرون الثلاثة، فإن كانوا تركوا الشروط لأنها معلومة [فالأسباب معلومة] فالصواب استيعاب الثلاثة كسائر الأحكام. وشروط التوارث وهي ما يؤثر عدمها، بخلاف الموانع يؤثر وجودها، وهو سر الفرق بينهما، فافهمه في كل باب من أبواب الفقه، ولأجل هذا السر أن الشك في المانع لا يقدح، وفي الشرط يقدح كالسبب فتأمل الآخر. فالشروط ثلاثة: تقدم موت الموروث على الوارث، واستقرار حياة الوارث بعده كالجنين، والعلم بالقرب والدرجة التي اجتمع فيها، احترازا من موت رجل من مضر لا يعلم له قريب أو من قريش فإن ميراثه لبيت المال مع أن كل قرشي ابن عمه ولا ميراث لبيت المال مع ابن عم لكنه فات شرطه الذي هو العلم بدرجته، فلعل غيره أقرب منه، فهذه شروط لا يؤثر وجودها إلا في نهوض الأسباب لترتيب مسبباتها عليها. وهي خمسة، وجميعها مشترك في تأثير وجودها في عدم التوريث، ولا يؤثر عدمها في وجوده ولا عدمه، وهي الكفر، لقوله، عليه السلام -: "لا يتوارث أهل ملتين "، والقتل العمد العدوان لقوله - عليه السلام -" قاتل العمد العدوان لا يرث ". فرع: في النوادر: إذا قتل الأبوان ابنهما على وجه الشبه وسقط القصاص عنهما فالدية عليهما ولا يرثان منها، ولا من المال لأنه عدوان من الأجنبي، والشك لأن الشك في المقتضى يمنع الحكم إجماعا، والرق لأن مال العبد مستحق للسيد؛ ولأنه من جرائر الكفر، ويستوي القن ومن فيه علقة رق، فلا يرث ولا يورث منه، واللعان يمنع من إرث الأب، والأب منه حتى يستلحقه. والشك ثمانية: في الوجود كالمفقود، والحياة كاستبهام استهلال أحد المولودين، والعدد كالحمل، والذكورة كالخنتى فيعطى ثلاثة أرباع ميراث، والنسب كالمتداعي بين شخصين، وجهة الاستحقاق كمن أسلم على أختين ومات قبل الاختيار، وتاريخ الموت بطرو النسيان والجهل به كالغرقى. تفريغ: قال ابن يونس: إن ترك ابن الملاعنة أمه وابنته فالسدس لأمه والنصف لابنته وما بقي للعصبة قاله زيد، وقال علي: يرد الباقي على الأم والبنت على أربعة ومنها تصح، وقال ابن مسعود: الباقي للأم؛ لأنها عصبته فتصح من اثنين، وإن ترك أمه وأخته شقيقته فإن الشقيقة تصير أختا لأم، فللأم الثالث وللأخت السدس، وما بقي للعصبة قاله زيد، ويرد عليهما عند علي - رضي الله عنه - على ثلاثة ومنها تصح، وعند ابن مسعود الباقي للأم فتصح من ستة، وإن ولدت هذه الشقيقة معه في بطن يتوارثان؛ لأنهما شقيقان لاتحاد الأب والاستلحاق، وفيه خلاف، وعلى الأول للأم الثلث وللأخت النصف والباقي للعصبة على ما تقدم من الخلاف. والتوءمان خمسة أقسام: من الملاعنة، والمغتصبة، والمتحملة بأمان، والمسبية، والزانية، وفي الكل قولان: أحدهما يتوارثان بأنهما شقيقان، وثانيهما: أخوان لأم إلا الزانية فقول واحد أنهما لأم لتعذر الاستلحاق وانتفاء الشبهة. قال: والصواب في غيرها الشقاقة إلا المغتصبة؛ لأنها لا شبهة فيها ولا استلحاق. قال مالك والأئمة: ميراث المعتق بعضه كالعبد، وعن ابن عباس أنه كالحر يرث ما يرث الحر ويحجب ما يحجب الحر تغليبا للحرية كما غلبنا نحن الرق، وعن علي رضي الله عنه - يرث ويحجب بقدر ما عتق منه توفية بالشائبتين، وعلى مذهب علي إن ترك ابنين كل واحد معتق نصفه فالمال بينهما نصفان، أو ثلث كل واحد حر فثلثا المال بينهما والباقي للعصبة، أو أحدهما حر كله والآخر نصفه [فاختلف في تفريع قوله - رضي الله عنه - قيل للكامل الحرية الثلثان وللآخر الثلث لأنها نسبة حريته، وقيل كما لو ادعى أحدهما كله والآخر نصفه] فلمدعي الكل النصف بلا منازعة فيصير له ثلاثة أرباع، وعلى هذا تتفرع أجزاء الحرية وكثرة الأولاد وكونه ابنه أو أباه أو غيره من الورثة. وفي المدونة: إذا أعتق المديان ولم يعلم الغرماء حتى مات بعض أقارب العبد المعتق لا يرثه؛ لأنه عبد حتى يجيز الغرماء عتقه؛ ولأنه متردد بين الرق والحرية وقريبه حر صرف فلم تحصل المساواة، وإذا بتل عتقه في مرضه وللسيد أموال متفرقة إذا جمعت خرج العبد من ثلثها فهلك العبد قبل جمعها لا يرثه ويرثه الأحرار؛ لأن المال قد يهلك فلم تتحقق الحرية ولا المساواة. قال: في كتاب العتق قال ابن يونس: قال بعض المشايخ: إذا اشتريت عبدا فأعتقته وورث وشهد ثم استحق، فإن أجاز المستحق البيع نفذ العتق والميراث وغيره، وإلا بطل الجميع، والفرق أن المديان متعد على الغرماء بعتقه بخلاف المشتري مع المستحق، فلو علم المشتري ملك المستحق عند العتق استوى المسألتان ولا ميراث بالشك، قال ابن يونس: وإن لم يعلم الغرماء حتى ورث ثم أجازوا العتق نفذت الأحكام كالمشتري، وقد قال مالك وابن القاسم: ولا مال له غيره فهلك العبد قبله وترك ابنته حرة وترك ألفا فقد مات رقيقا وماله لسيده، ولو كان له مال مأمون كالعقار يخرج العبد من ثلثه بعد عتقه ورثته ابنته والسيد نصفين، وقيل لا ينظر لفعله إلا بعد موته، له مال أم لا، مراعاة للطوارئ البعيدة، وحيث شك في تاريخ الموت بالجهل كالغرقى ورث كل واحد أحياء ورثته؛ لأنهما كأنهما لا قرابة بينهما لعدم الترجيح، وعن علي - رضي الله عنه - وأحمد: يرث كل واحد من صاحبه ويرث الآخر منه ما ورثه منه؛ لأن الأصل أن لا ينتقل المال عنهما إلا بيقين، ولا يقين، وعن عمر - رضي الله عنه - إن وجدت يد أحدهما على صاحبه ورث الأعلى من الأسفل. فعلى قول الجمهور إذا غرق أخوان وتركا أخا وأما فللأم الثلث مما ترك كل واحد، والباقي للأخ الثلث والثلثين، وعلى قول علي - رضي الله عنه - تحيي أحدهما وتميت الآخر ويقسم ميراثه، فللأم السدس لتحقق أخوين، والباقي للأخوين فتصبح من اثني عشر لكل واحد من الأخوين خمسة، ثم تميت الحي وتحيي الآخر الميت ويقسم تركة الذي أميت الآن فللأم السدس اثنان ولكل أخ خمسة، فيصير للأم اثنان من تركة هذا واثنان من تركة الأول، وفي يد الأخ الحي خمسة من تركة هذا وخمسة من تركة ذلك، وفي يد كل ميت خمسة ورثها من الميت الآخر، فيماتان جميعا ميتة واحدة فيكون للأم الثلث مما بقي لكل واحد منهما، والباقي لأخيه، وتركة واحد خمسة لا تنقسم على ثلاث فتضرب الاثني عشر التي كانت فريضة كل واحد منهما في ثلاثة [تكون ستة وثلاثين، في يد الأم اثنان من تركة كل واحد منهما في ثلاثة] بستة، وفي يد الأخ الحي خمسة من تركة كل واحد في ثلاثة بخمسة عشر، وفي يد كل واحد من تركة الآخر خمسة في ثلاثة بخمسة عشر، وللأم من هذه الخمسة عشر خمسة ولأخيه عشرة فيصير لها من تركتها عشرة وذلك اثنان وعشرون، ويصير للحي من تركة كل واحد خمسة وعشرون فذلك خمسون، فيتفق ما في يد الأم والأخ بالأنصاف، فيكون في يد الأخ خمسة وعشرون، وفي يد الأم أحد عشر. واتفق العلماء أن قاتل العمد لا يرث من المال ولا من الدية، وأن قاتل الخطأ لا يرث من الدية، وورثة مالك من المال ومنعه (ش) و(ح) من المال، قال (ح) إلا أن يكون القاتل صبيا أو مجنونا لعدم التكليف. لنا قوله تعالى:{يوصيكم الله في أولادكم} وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " قاتل الخطأ يرث من المال ولا يرث من الدية ". احتجوا بقوله - عليه السلام - "القاتل لا يرث" وبالقياس على المطلق في المرض، وبالقياس على الدية. والجواب عن الأول: أنه مطلق فيحمل على المقيد في الرواية الأخرى بالعمد. والجواب عن الثاني: الفرق بأن جهة الميراث قد بطلت بالطلاق، والقرابة هاهنا باقية. والجواب عن الثالث: الفرق أن الدية وجبت فلا يكون له منها شيء لئلا يتناقض. وميراث المرتد للمسلمين عند مالك (ش) مات أو قتل، وقال علي وابن مسعود وغيرهما لورثته من المسلمين [اكتسبه قبل ردته أو بعدها، وقيل ما بعد الردة للمسلمين] واتفقوا على أنه لا يرث ورثته المسلمين. وميراث الذمي إذا مات لبيت المال عند مالك و(ش) و(ح) كما يعقلون عنه. وقال عمر - رضي الله عنه - للذين يؤدون جزيته، وقال النخعي: لأهل قريته قوة على خراجهم، وإذا مات أحد من أهل الصلح ولا وارث له ورثه المسلمون، وعن مالك لأهل مؤداة لأن موته لا يضع عنهم شيئا، وعلى هذا يفرق بين أن يشترط السقوط أم لا، واتفق مالك والأئمة على أن التوارث منقطع بين المسلم والكافر، وقال عمر وجمهور الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وعن معاوية ومعاذ بن جبل: " يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم بفضل الإسلام، كما نتزوج نساءهم ولا يتزوجون نساءنا ". فرعان مرتبان الأول: قال ابن يونس: إن أسلم قبل القسم أو عتق العبد لا ميراث عند مالك والأئمة لقيام المانع عند الموت، وعن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - يرثان نظرا لعدم القسمة، واتفقوا بعد القسم على عدم التوريث. الثاني: الكفار المختلفون عندنا لا يرث اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي، قاله في الجلاب، لعدم المناصرة، ووقوع العداوة كالمسلم، وقيل الكل ملة واحدة لقوله تعالى:{فمنكم كافر ومنكم مؤمن} فجعل الإيمان ملة والكفر كله ملة، ولقوله - عليه السلام -: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، فجعل كل فريق قسما واحدا، قاله (ش) و(ح) وغيرهما. والجواب: المعارضة بقوله تعالى:{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} فجعلهم مللا، وقيل أهل الكتاب ملة، والصابون وعبدة الأوثان ملة لعدم كتاب لهم. فرع: في المنتقى الزنديق وهو المنافق كمن يعبد شمسا أو حجرا سرا، روى ابن القاسم عن مالك يرثه ورثته، ومقتضاه أنه يقتل حدا وعنه لا يرثه ورثته، ومقتضاه أنه يقتل كفرا. تنبيه: يتحصل أن التوارث لا يحصل بين ملتين إلا في أربع مسائل: الزنديق، والصلحي، والذمي، والمرتد، يرثهم بيت المال، والصحيح أنه وارث، وقيل حائز فيكون المستثني الزنديق وحده. فرع: في الجواهر: إن تحاكم إلينا ورثة الكافر وتراضوا بحكمه قسمنا بينهم على حكم الإسلام، وإن امتنع بعضهم والجميع كفار لم نعرض لهم، أو منهم مسلم قسمنا بينهم على رواية ابن القاسم على مواريثهم إن كانوا كتابيين، وعلى قسم الإسلام إن كانوا من غير أهل الكتاب، وقال سحنون: أهل الكتاب وغيرهم سواء. فرع: في الجواهر: المفقود أو الأسير إذا انقطع خبره إن كان له مال لا يقسم على ورثته ما لم تقم بينه على موته أو لا يعيش إلى مثل تلك المدة غالبا، وحدها سبعون وقيل ثمانون وقيل تسعون، فيقسم على ورثته الموجودين عند الحكم، وإن مات له قريب حاضر توقفنا في نصيبه حتى نعلم حياة المفقود فيكون المال له، أو يمضي تعميره فيكون مال الميت لورثته دون المفقود وورثته، (وإذا قسمنا على الحاضرين أخذنا في حقهم بأسوأ الأحوال حتى لا نورث بالشك، كما نقول إن ماتت) وتركت زوجا وأما وأختا وأبا مفقودا فالفريضة على أن المفقود ميت من ستة، للزوج النصف ثلاثة، (وللأخت ثلاثة، ويعال للأم بالثلث فتصير من ثمانية، وعلى أنه حي من ستة أيضا للزوج النصف ثلاثة) وللأمم الثلث مما يبقي سهم، وللأب سهمان، فتتفق الفريضتان بالنصف فتضرب نصف إحداها في كامل الأخرى تكون أربعة وعشرين، فللزوج ثلاثة من ثمانية بيقين مضروبة في ثلاثة نصف الفريضة الأخرى، وإنما تكون له من ستة بصحة حياة الأب وهي غير معلومة، الأخت لا ميراث لها من أختها إلا إذا صح موت الأب قبل الأخت وهو مجهول فلا ترث، وللأم من ابنتها السدس يقينا سهم من ستة مضروب في أربعة نصف فريضة ثمانية، وإنما يكون لها الثلث بالعول بصحة موت زوجها قبل ابنتها وهو مجهول، ويبقى من الفريضة أحد عشر سهما إن صح أن الأب كان حيا يوم موت ابنته، فللزوج ثلاثة من ستة مضروبة في أربعة باثني عشر، في يده منها تسعة الباقي له ثلاثة من الموقوف، وللأم سهم من ستة مضروب في أربعة ففي يدها جميع حقها، وللأب سهمان من ستة مضروب في أربعة بثمانية، فتدفع له الثمانية الباقية، وإن ثبت موته قبل ابنته أو مات بالتعمير فكما تقدم: للزوج يقينا ثلاثة من ثمانية مضروبة في ثلاثة بتسعة وهي في يده، وللأم اثنان من ثمانية مضروبة في ثلاثة بستة في يدها أربعة يدفع إليها سهمان من الموقوف، وللأخت ثلاثة من ثمانية في ثلاثة بتسعة، فتدفع لها التسعة الباقية. فرع: قال: إن كان للخنثى مبالان أعطي حكم ما بال منه، فإن بال منهما اعتبرت الكثرة، فإن استويا اعتبر السبق فإن استويا اعتبر نبات اللحية أو كبر الثديين ومشابهتهما لثدي النساء، فإن اجتمع الأمران اعتبر حال البلوغ إن حاض فامرأة أو احتلم فذكر، أو اجتمعا فهو مشكل، وإن لم يكن له فرج لا للرجال ولا للنساء بل مكان يبول منه اعتبر البلوغ كما تقدم، وحيث أشكل فميراثه نصف نصيبي ذكر وأنثى، فتضرب مخرج التذكير في مخرج التأنيث إن تبيانا، وتستغني به عنه إن كان مثله أو داخلا فيه، وتضرب الحاصل في حالتي الخنثى أو عدد أحوال الخناثي إن زادوا على الواحد، ومعرفة الأحوال تعرف بالتضعيف، كلما زدت خنثى أضعفت جميع الأحوال التي كانت قبله، فللواحد حالان، وللاثنين أربعة، وللثلاثة ثمانية، ثم كذلك، فما انتهى إليه الضرب في الأحوال فمنه تكون القسمة. ثم لها طريقتان، الأولى أن تنظر في المجتمع من الضرب كم يخص الخنثى منه على تقدير الذكورة، وكم على تقدير الأنوثة، فتضم أحدهما للآخر وتعطيه نصفه وكذلك الورثة، بطريقة الثانية: تضرب نصيبه من فريضة التذكير في جملة فريضة التأنيث، وتضرب نصيبه من فريضة التأنيث في فريضة التذكير ثم تجمع له ما يخرج منهما فهو نصيبه، نحو خنثى وعاصب، فريضة التذكير واحد إذا يحوز الذكر جميع المال، وفريضة التأنيث من اثنين والواحد داخل فيهما تضرب اثنين في حال الخنثى بأربعة، فعلى الطريقة الأولى للخنثى على تقدير الذكورة جميع المال وهو أربعة، وعلى الأنوثة نصف المال فذلك مال ونصف تدفع نصف ذلك وهو ستة، وربع المال وهو ثلاثة من الأربعة، والسهم الباقي للعاصب؛ لأنه على تقدير الذكورية لا يكون له شيء، وعلى الأنوثة له النصف، فلما ثبت له تارة وسقط أخرى أعطى نصفه وهو الربع، وعلى الطريق الثاني للخنثى من فريضة التذكير سهم (مضروب في فريضة التأنيث باثنين، وله من فريضة التأنيث سهم مضروبا في فريضة التذكير بسهم) فيجتمع له ثلاثة أسهم وهي ثلاثة أرباع المال، وللعاصب سهم من فريضة التأنيث مضروب في فريضة التذكير بسهم وليس له شيء من فريضة التذكير. مثال آخر: له ولدان ذكر وخنثى، ففريضة التذكير من اثنين، وفريضة التأنيث من ثلاثة وهما متباينان، فاثنان في ثلاثة ستة، ثم في حال الخنثى باثني عشر، فعلى الطريق الأول للخنثى على تقدير الذكورة ستة، وعلى تقدير الأنوثة أربعة فله خمسة، وللذكر على ذكورة الخنثى ستة وعلى الأنوثة ثمانية فله سبعة، وعلى الطريق الثاني للخنثى من فريضة للتذكير سهم مضروب له في ثلاثة فريضة التأنيث بثلاثة، وله من فريضة التأنيث سهم مضروب له في فريضة التذكير وهي اثنان باثنين، وذلك خمسة، وللذكر من فريضة التذكير سهم في ثلاثة فريضة التأنيث، وله من فريضة التأنيث سهمان في اثنين فريضة التذكير بأربعة فتجتمع سبعة وهي حصته. مثال آخر: ولدان خنثيان وعاصب، للخنثيين أربعة أحوال، فالفريضة على أنهما ذكران من اثنين، وأنثيان من ثلاثة، وكذلك في الحالين الآخرين، أعني أحدهما ذكر والأخر أنثى من الجانبين، فتستغني بثلاثة عن ثلاثة وثلاثة، وتضربها في اثنين بستة، ثم في الأحوال الأربعة بأربعة وعشرين، فعلى الطريق الأولى: لكل واحد من الخنثيين على تقدير انفراده بالذكورة ستة عشر، وعلى تقدير مشاركته فيها (اثنا عشر، وعلى تقدير انفراده بالأنوثة ثمانية وكذلك على تقدير مشاركته فيها) وجملة ذلك أربعة وأربعون في الأحوال الأربع، وإنما يرث بحالة واحدة فيكون له ربع الجميع وهو أحد عشر، ويبقى للعاصب سهمان لأن الحاصل له في حالة من جملة الأحوال الأربعة الثلث فله ربعه وهو سهمان من أربعة وعشرين، وعلى الطريق الثاني لكل واحد منهما من فريضة تذكيرهما سهم مضروب له في فريضة ثانيتهما وهي ثلاث بثلاثة، وله من فريضة ثانيتهما سهم مضروب له في اثنين فريضة تذكيرهما باثنين، وله من فريضة تذكيره خاصة سهمان في اثنين فريضة تذكيرهما بأربعة، وله من فريضة تأنيثه خاصة سهم في اثنين أيضا باثنين وجملة ذلك أحد عشر، فهو نصيب كل واحد منهما، وللعاصب سهمان، وليس له شيء من الفرائض الثلاث المشتملة على الذكورة، وإنما له في فريضة تأنيثهما سهم مضروب له في اثنين فريضة التذكير باثنين، وعلى هذا النحو يعمل فيما زاد على الاثنين. تنبيه: قال صاحب المقدمات: لا يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة ولا أبا ولا أما، وقيل قد وجد من له ولد من ظهره وبطنه، فإن صح ورث من ابنه لصلبه ميراث الأب كاملا، ومن ابنه لبطنه ميراث الأب كاملا. تنبيه: قال ابن يونس: إن كان الخنثى صغيرا نظر لعورته، أو كبيرا جعل يبول إلى حائط أو على حائط، فإن ضرب بوله الحائط أو خرج عنه إن بال من فوقه فهو ذكر وإلا فأنثى، وقيل يجعل أمامه مرآة وهو يبول فيظهر بها حاله، وإذا انتهى الإشكال كما تقدم عدت الأضلاع، فللرجل ثمانية عشر من الجانب الأيمن ومن الأيسر سبعة عشر وللمرأة من كل جانب ثمانية عشر لأن حواء من ضلع أضلاع آدم اليسرى فبقي الذكر ناقصا أبدا ضلعا من الأيسر، قضى به علي - رضي الله عنه - وقال (ح) حكمه حكم أنثى لأنه المتيقن، وقال (ش) إن أضر به كونه ذكرا فذكر أو أضر به كونه أنثى فأنثى، ويوقف ما بين الحصتين حتى يثبت أحد الأمرين، ويوقف أبدا كمال يجهل صاحبه، وقيل بل يخرج على قاعدة الدعاوى فيقول أنا ذكر ولي كل المال، ويقال له بل أنثى ولك نصف المال، فيقع التداعي في النصف بعد تسليم النصف فيكون له ثلاثة أرباع المال، فهذه أربعة أقوال يتفرع عليها الواقع من المسائل. فرع: في الجواهر: والشك في الوجود والذكورة جميعا في الحامل، فيرغب الورثة في التعجيل، قال الشيخ أبو إسحاق: لا تنفذ وصاياه ولا تأخذ امرأته أدنى سهميها حتى تضع فيتعين المستحق، وعن أشهب، يتعجل أدني السهام الذي لا يشك فيه؛ لأن تأخيره لا يفيد إذ لابد من دفعه، وقيل يوقف ميراث أربع ذكورة؛ لأنه أكثر ما تلده، وقد ولدت أم ولد إسماعيل أربعة ذكورا: محمدا وعمر وعليا وإسماعيل وبلع محمد وعمر وعلى الثمانين. فرع: في المنتقى عن يحيى الفرضي في الصبي يموت وله أم متزوجة، لا ينبغي لزوجها وطؤها حتى يتبين أن بها حملا أم لا لمكان الميراث؛ لأنها إن كانت حاملا ورث ذلك الحمل أخاه لأمه، وقال أشهب: لا ينعزل عنها، فإن وضعت لأقل من ستة أشهر ورث أخاه، أو لأكثر من ستة أشهر أو تسعة أشهر أو أكثر من ذلك لم يرثه، وإن كان زوجها غائبا عنها غيبة بعيدة لا يمكنه الوصول إليها ورث إن ولدت لأكثر من تسعة أشهر. فرع غريب سئل بعض الفضلاء عن أخوين ماتا عند الزوال أو غروب الشمس أو نحو ذلك من الأوقات، لكن أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، فهل يتوارث الإخوة أو لا يتوارثان لعدم تيقن تقدم أحدهما على الآخر أو يرث أحدهما الآخر من غير عكس. أجاب بأن المغربي يرث المشرقي بسبب أن الشمس تزول أبدا بالمشرق قبل المغرب، وكذلك غروبها وجميع حركاتها، فالمشرقي مات قبل المغربي قطعا لقول السائل ماتا معا عند الزوال في المشرق والمغرب فيرثه المغربي جزما. وأصلها قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقوله تعالى في آخر السورة:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا}. وفي البخاري: سئل أبو موسى الأشعري عن بنت وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فإنه سيتابعني، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال:{قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -: للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت. وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - لابنتي سعد بن الربيع من أبيهما الثلثين، قال سحنون: وهو أول ميراث قسم في الإسلام. وفي الموطأ: جاءت الجدة للأم إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فسألته ميراثها فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس، فقال أبو بكر معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فسأله ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب الله تعالى شيء وما أظن القضاء الذي قضي به إلا لغيرك، وما أن بزائد في الفرائض، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيكما خلت به فهو لها، ويروى أنه أراد إسقاطها فقام إليه رجل من الأنصار فقال: يا أمير المؤمنين إنك لتسقط التي لو تركت الدنيا وما عليها لكان ابن ابنها وارثها، وتورث التي لو تركت الدنيا وما عليها لم يكن لابن بنتها منها شيء، فقال حينئذ ما قال. وقال ابن يونس: وعن مالك أن الجدتين أتتا أبا بكر - رضي الله عنه - فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل من الأنصار: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي لكان يرثها، فجعل أبو بكر السدس بينهما. فوائد عشرون الفائدة الأولى في قوله تعالى:{في أولادكم} ولم يقل في أبنائكم؛ لأن الولد يشمل الذكر والأنثى، والابن خاص بالذكر. الفائدة الثانية في قوله تعالى:{للذكر مثل حظ الأنثيين} لأن عقله مثل عقليهما، وشهادته بشهادتيهما، وديته بديتيهما، فله من الإرث مثلهما، وقيل لأنه يتزوج فيعطي صداقا وهي تأخذ صداقا، فيزيد بقدر ما يعطي ويبقي له مثل ما أخذت فيستويان. الفائدة الثالثة: في قوله تعالى:{فوق اثنتين} اعتبر ابن عباس ظاهر اللفظ فجعل الثلثين للثلاث من البنات وللبنتين النصف، واختلف فيها على رأي الجمهور، فقيل زائدة وخطأه المحققون، فإن زيادة الظرف بعيدة، وقيل اثنتين فما فوقهما وهو خلاف الظاهر أيضا، والصواب أن الله تعالى نص على الزائد على الاثنتين في البنات ولم يذكر الابنتين، ونص على اثنتين في الأخوات ولم يذكر الزائد اكتفاء بآية البنات في الأخوات، وبآية الأخوات في البنات؛ لأن القرآن كالكلمة الواحدة يفسر بعضه بعضا، وعلم فرض البنتين بالحديث النبوي فاستقامت الظواهر وقامت الحجة؛ لأن الله تعالى إذا جعل الثلثين للأختين فالبنات أولي لقربهما، ولأن البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث، فأولى أن تأخذه مع أختها لأنها ذات فرض مثلها، والتسوية بين البنتين والأخت الواحدة في النصف خلاف القياس والحديث المتقدم. الفائدة الرابعة: في قوله تعالى:{وإن كانت واحدة فلها النصف} لأن الذكر لو انفرد لكان له الكل، فهي إذا انفردت لها النصف؛ لأنها على النصف منه في الأحكام كما تقدم. الفائدة الخامسة في أن للاثنين الثلثين؛ لأن الذكر إذا كان معه ابنة له الثلثان، فجعل الابنتان بمنزلة ذكر في بعض أحواله، فهو من باب ملاحظة ما تقدم من الحكمة في جعل الأنثى على النصف، والكثير من البنات سقط اعتباره في التأثير في الزيادة، كالذكور إذا كثر عددهم اشتركوا في نصيب الواحد إذا انفرد فسوى بين البابين في الإلغاء. الفائدة السادسة في قوله تعالى:{ولأبويه} سمى الأم أبا مجازا من باب التغليب، وهو في لسان العرب يقع إما لخفة اللفظ كالعمرين فإن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر أو لفضل المعني وخفته، نحو: لنا قمراها والنجوم الطوالع فغلب لفظ القمر على الشمس لأنه مذكر والشمس مؤنثه، والمذكر أخف وأفضل، وإما لكراهة اللفظ لإشعاره بمكروه نحو قول عائشة - رضي الله عنها: وما لنا عيش إلا الأسودان، تريد الماء والتمر، والتمر أسود والماء أبيض وكلاهما مذكر وعلى وزن أفعل فلا تفاوت، بلا لفظ الأبيض يشعر بالبرص فغلبت الأسود عليه، فهذه ثلاثة أسباب للتغليب في اللغة. الفائدة السابعة: في إعطاء السدس للأبوين لأنه أدني سهام الفرائض [المواريث] في القرابات، وكذلك في الخبر فيمن أوصى له بسهم من ماله، قال: يعطي السدس والابن أقوى العصبات، ومقتضاه حرمات الأب، وبر الأب يقتضي عدم الحرمان فاقتصر له على أقل السهام، وسويت الأم به؛ لأنه من باب ملاحظة أصل البر لا من باب تحقيق المستحق. الفائدة الثامنة: في قوله تعالى:{وورثة أبواه فلأمه الثلث} لأنهما اجتمعا في درجة واحدة وهما ذكر وأنثى فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وقوله تعالى:{فإن كان له أخوة فلأمه السدس} ولم يذكر الأب، وحجب بالأخوة؛ لأن المال قبل نزول المواريث كان كله للعصبة فلما قسم الله تعالى لكل واحد ما سماه بقي الأب على مقتضى الأصل، له ما بقي بعد السدس كالعام إذا خص، ويأخذ الأب ما عدا السدس لأنه أقرب عصبة من الإخوة، وحجبنا الإخوة إلى السدس لأن الأخ يدلى بالنبوة لأنه ابن أبيه، وقد تقدم أن شأن النبوة إسقاط الأباء والأمهات، وإنما يقتصر لهما على أدنى السهام ملاحظة لأصل بر الوالدين، فالتحقيق أن الإخوة نزعوا من الأم، والأب نزع من الإخوة السدس التي كانت الأم تأخذه معه، ولم يحجب الأخ الواحد (ولا الأخت الواحدة وإن حجب الولد الواحد لأن الولد الواحد) ابن الميت والأخ ابن أبيه فهو أبعد رتبة فضوعفت الرتبة في البعد بواحد كما نقصت الرتبة في القرب بواحد، فإن اجتمع ابنة وأخت فللبنت النصف وللأخت النصف، أما البنت فلأنها نصف ابن كما تقدم، وأما الأخت فلأنها ولد أبيه، فبالأب تستحق ذلك؛ لأنه لو حضر كان له، ولأن العم ولد جده وهو يأخذه لو حضر، وهذه ولد أبيه فهي أقرب منه، ألا ترى أنها لو كانت أختا لأم لم تأخذ شيئا لهذا السر الفائدة التاسعة. في قوله تعالى:{من بعد وصية يوصي بها أو دين} جعل الميراث متأخرا عن الدين والوصية، فانظر إنه قد تقدم مقادير وهي النصف والثلثان والسدس والثلث ومقدرات وهي الأنصباء من الأموال، فهل المتأخر المقدار أو المقدر؟ فإن كان المتأخر المقدار فيكون المعنى للبنت النصف، وكونه نصفا إن تقدم على الدين زاد أو تأخر نقص، فأخبر الله تعالى أن النصف المراد إنما هو النصف الذي يصغر بتأخيره عن إخراج الدين والوصية، ويكون أصل التمليك [لم يتعرض له بالتأخير، أو أصل التمليك] متأخر عن الدين، فلا تكون التركة على ملك الورثة قبل وفاء الدين على هذا التقدير، وتكون على ملكهم على التقدير الأول، وهو أصل مختلف فيه بين العلماء، وسيأتي بيانه في قسم التركات إن شاء الله تعالى. الفائدة العاشرة لم قدم الوصية في اللفظ على الدين مع عدم وجوبها ووجوبه، والشأن تقديم الأعم؟ والجواب أن النفوس مجبولة على إهمال الوصية لعدم وجوبها في أصلها وعدم المعارضة فيها، فقدمها الله تعالى ليشعر النفوس بميل صاحب الشرع لها فيبعد إهمالهم لإخراجها، واستغنى الدين بقوة جناب المطالب به عن ذلك. وقال لي بعض الفضلاء: إنما قدم الوصية لأنه أضاف إليه بعد، والميراث إنما يقسم بعدها لا بعد الدين [فإن الدين يخرج أولا ثم الوصية ثم الميراث، فلما كان الميراث إنما يقع بعد الوصية لا بعد الدين] لأنها المتأخرة في الإخراج جعل اللفظ على وفق الواقع، فقيل من بعد وصية، ولو قال: من بعد دين أو وصية يوصي بها لكانت البعدية مضافة للدين وكان الدين يتأخر إخراجه عن الوصية وهو خلاف الإجماع. قلت له: هذا يتم لو قال بالواو المقتضية للجمع، وإنما الآية ب "أو" المقتضية أحدهما وحده، فعلى هذا ميت له وصية بغير دين وآخر له دين بغير وصية، فلم قدمت الوصية مع ضعفها مع أنها منفردة فيعود السؤال. قال: تكون أو بمعني الواو. قلت: ينتقض المعنى نقضا شديدا إن جعلنا أو بمعني الواو، يكون الميراث متأخرا عن مجموعهما لا عن أحدهما، ولا يلزم من ترجيح المجموع عليه ترجيح جزئه عليه، فلا يلزم التأخير عن الدين وحده، وإن جعلناها على بابها يكون الميراث متأخرا عن أحدهما، ويلزم من تأخيره وترجيح أحدهما عليه ترجيحي المجموع عليه ضرورة فظهر أن المعني مع الواو ينتقض نقضا شديدا فلا يصار إليه. الفائدة الحادية عشرة: في قوله تعالى:{ولكم نصف ما ترك أزواجكم} لأن الزوج والزوجة كالشريكين المتعاونين على المصالح، فلما افترقا كان له النصف، ومع الولد الربع؛ لأن الولد عضو منها فقدم عليه، ولقوة المشاركة أشبه صاحب الدين الذي يقدم على الابن فجعل له نصف ما كان له، وهو الفرق بين الزوج والأب له السدس أقل السهام؛ لأنه صاحب رحم عري عن شائبة المشاركة والمعاملة، وناسب الأب من وجه؛ لأن للزوج أن يتزوج أربع نسوة فأعطي له من مالها بتلك النسبة وهي الربع أقل السهام، كما أعطي الأب أقل السهام، والمرأة لها الربع لأن الأنثى نصف الذكر كما تقم، ولها الثمن عند الولد لذلك، ولأن لها ربع حده لأنه إذا تزوج أربع نسوة حصتها الربع وليس للزوج الزيادة على أربع فاستحقت الربع. الفائدة الثانية عشرة في قوله تعالى:{وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة} قيل هي مشتقة من الإكليل لأن الإنسان ينزل منه أبناؤه فهم تحته، ولذلك يقول العلماء الابن وإن سفل، وينزل من آبائه، ولذلك يقولون الأب وإن علا فهم فوقه، وإخوته حوله (مثل الأجنحة، فإذا لم يكن له أبناء تحته ولا آباء فوقه بقي في الوسط وإخوته حوله) عن يمينه وشماله فأشبه الإكليل، وقيل من الكلال الذي هم التعب، أي كلت الرحم عن ولادة الأبناء، قال ابن يونس: وقيل يكفي في الكلالة عدم الولد، وفي مسماها ثلاثة أقوال: قيل اسم للميت أي هو مع الورثة كالإكليل، وقيل للورثة الذين ليس فيهم ولد ولا أب، وقيل للفريضة التي لا يرث فيها ولد ولا والد، وأجمع الناس على أن المراد بالأخوة هاهنا أخوة الأم، وإن كان اللفظ صالحا لهم ولغيرهم من الإخوة. الفائدة الثالثة عشرة: في قوله تعالى:{فلكل واحد منهما السدس} أعطي له ما كان لأمه التي يدلى بها، ولذلك استوى ذكرهم وأنثاهم؛ لأن الأصل أنثى فلا أثر للذكورة، والأم إنما ترث السدس مع وجودهما فكان ذلك للواحد، والأم لها حالان: الثلث والسدس، فجعل حالاها لحالتهما، إن انفرد الواحد فالسدس، أو اجتمعوا فالثلث، فسر هذه الفروض الأم وسر فيهما الأب والبنوة كما تقدم، ولما كان أعلى أحوال الأم الثلث، وأقل أحوالها السدس، وأعلى أحوال الإخوة الاجتماع وأدناها الانفراد، فرض الأعلى للأعلى والأدنى للأدنى واستوى الذكر والأنثى، بخلاف الأشقاء والأولاد وسائر القرابات والزوجين؛ لأن الذكر حيث فضل الأنثى إنما كان إذا كان الذكر عاصبا ولا عصوبة مع الإدلاء بأنثى التي هي الأم، وأما الزوج وإن لم يكن عصبة فلأنه يدلى بنفسه، وهو أشرف من الزوجة بالذكورة، وهاهنا الأخ الذكر للأم لم يدل بنفسه بل بالأم فيسقط اعتبار خصوص كونه ذكرا. الفائدة الرابعة عشرة في قوله تعالى:{قل الله يفتيكم في الكلالة} تقدم اشتقاقها وتلك الأقوال الثلاثة التي في مسماها هاهنا، وكان عمر - رضي الله عنه - يستشكلها كثيرا، وعنه في ذلك حكايات نقلها ابن عطية، إحداها روى عنه: ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - مراجعتي في الكلالة، ولوددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى يبينها وثانيتها كان يقول على المنبر ثلاث لو بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم - لكان أحب إلى من الدنيا: الجد والكلالة، والخلافة، وأبواب من الربا، وثالثها أنه كتب كتابا فيها ومكث يستخير الله تعالى فيه ويقول: اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه، فلمنا طعن دعا بالكتاب فمحي ولم يعلم ما فيه، ورابعتها أنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لأقضين في الكلالة بقضاء تتحدث به النساء في خدورها فخرجت عليهم حية من البيت وتفرقوا فقال: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمه، وخامستها أنه خطب الناس يوم جمعة، فقال: والله ما ادع بعدي شيئا أهم من الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن في نحري وقال: تكفيك آية الضيف التي أنزلت في آخر سورة النساء، فإن أعش فسأقضي فيها بقضية لا يختلف فيها اثنان ممن يقرأن القرآن، وعن عقبة بن عامر ما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - شيء ما أعضلت بهم الكلالة، قال ابن عطية: فظاهر كلام عمر أنها آية الصيف، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الكلالة فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف{وإن كان رجل يورث كلالة} إلى آخر الآية، واستكشل جماعة استكشال عمر - رضي الله عنه - لها، فإنها بينة غير أن اللفظ لا دلالة له على خصوص كونه اسما للميت أو المال أو الورثة، ولا على أخوة لأم أو أشقاء أو لأب، فلعله موضع الإشكال، غير أنه لا يعرف أن المراد بالآية الأولى أخوة الأم، وبهذه أخوة الأب أو الشقائق. الفائدة الخامسة عشر في قوله تعالى:{وله أخت فلها نصف ما ترك} إنما كان لها النصف لأنها بنت أبيه، فالأخوات في الحقيقة بنات غير أنهن أبعد مرتبة، فلا جرم قدم بنات الصلب عليهن وأجرين مجراهن عند عدمهن، ولما كان الأخ الذكر إذا انفرد له الكل كان لها النصف؛ لأن الأنثى نصف الذكر كما تقدم، وللأنثيين فأكثر الثلثان لأن الأنثيين كذكر، والذكر له الثلثان مع الأخت فجعل ذلك لهما، ولو بقيت البنت أو الأخت على النصف حالة الاجتماع ولم تضار بأختها مع أن الابن لا يبقى على حالة عند الانفراد إذا كان معه أخته ويضاربها للزم ترجيح الأنثيين على الذكر، فكان المناسب أن يجعل الأنثيان مثل الذكر في أصل الفرض والمضارة، وسوى بين الأنثيين والزائد عليهما كما سوى بين الذكر والزائد عليه في حوز جميع المال، واستفيد الزائد من آية البنات، كما استفيد حكم البنتين من هذه الآية، فبقيت كل واحدة من الآيتين مبينة للأخرى، وقد تقدم بسطه في البنات. الفائدة السادسة عشرة في قوله تعالى:{فإن كانتا اثنتين} اتفق النحاة على أن خبر المبتدأ لا يجوز أن يكون معلوما من الخبر، قال أبو علي: (يمتنع قولك إن الذاهب جاريته صاحبها؛ لأنه قد فهم من قولك جاريته أنه صاحبها، وكذلك يفهم من قوله تعالى كانتا أنهما اثنتان، فالخبر معلوم من الاسم، ومقتضى ما تقدم المنع)، قال أبو علي في تعاليقه: كانت العرب تورث الكبيرة دون الصغيرة اهتضاما لها، فأشار الله تعالى بقوله "اثنتين" إلى أصل العدد المجرد من الصغر والكبر، وكأنه تعالى يقول كيف كانتا، فصار وصف التجريد عن الكبر والصغر قيدا زائدا في الخبر وهو لم يعلم من الاسم، فحسن أن يكون خبر الزيادة كما قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري أي المعروف، فحسن لإضمار الصفة، ونظائره كثيرة. الفائدة السابعة عشرة في قوله تعالى:{يبين الله لكم} بصيغة المضارع بعد أن تقدم البيان، فالمطابق لتقدم البيان: بين الله لكم فلم عدل عنه للمضارع؟ وجوابه أن الفعل المضارع يستعمل للحالة المستمرة مجازا، كقولهم فلان يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، أي: هذا شأنه، ومنه قول خديجة - رضي الله عنها - لرسول الله صلى الله عليه وسلم -: "إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق" أي: هذا شأنك: فمراد الآية أن البيان شأن الله تعالى في هذه المسألة وفي غيرها، فهي تحقيق للماضي، وعدة بوقوع البيان في المستقبل، فكان المعنى أتم من الماضي وحده. الفائدة الثامنة عشرة: في قوله تعالى:{يبين الله لكم أن تضلوا} فإن أن في أن تضلوا مصدرية مفعول من أجله، وهو غير مراد الظاهر؛ لأن معنى الظاهر يبين الله لكم من أجل أن تضلوا، فيكون الإضلال هو الباعث على البيان، وليس كذلك بل ضده، فيتعين مضاف محذوف تقديره يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، أو خشية أن تضلوا فهذا المحذوف هو المفعول من أجله على التحقيق، ونظائره في القرآن كثيرة. الفائدة التاسعة عشرة في الحديث النبوي المتقدم؛ لأنه إذا اجتمع بنت وبنت ابن وأخت فللبنت النصف لأنها نصف أخيها، وهي وبنت الابن ابنتان فلهما الثلثان كما تقدم تعليله، وهو أربعة أرباع، للبنت منها ثلاثة لأنها النصف، ولو كان مكان ابنة الابن أخوها كان له النصف الباقي، فإذا كانت أنثى كان لها الربع من حظهما؛ لأنه إذا تبين أن البنتين للصلب لا يزادان على الثلثين فأولى إن كانت إحداهما بنت ابن، وإذا تعين لها الربع من حظهما فهو السدس تكملة الثلثين. فيلاحظ هاهنا ثلاثة أمور: أن البنتين لا يزادان على الثلثين، وأن البنت لقربها جعل لها النصف، وأن السدس الصالح لبنت الابن هو ربع باعتبار الثلثين لا باعتبار أصل المال، وكان الأصل أن يكون لها الربع من أصل المال، لكن عدل عن ذلك ليلا ترجح هاتان على بنات الصلب، وللأخت ما بقي لأنها ذات فرض النصف، وتقوم مقام البنت عند عدمها فيكون للاثنتين منهن الثلثان، وهي تدلي بالبنوة لأنها بنت ابنه فتقدم لأنها من أرباب الفروض على العصبات فتأخذ ما بقي، لهذا السبب صارت الأخوات عصبة البنات، وهذا الحديث مخصص لقوله تعالى: {ليس له ولد وله أخت } فاشترط في توريثها عدم الولد، ولذلك قال ابن عباس يقدم العصبة عليها لظاهر الآية: فإن الله تعالى لم يجعل لها شيئا إلا عدم الولد، وهذا الحديث يبين أن مراد الله تعالى بالولد الذكر. الفائدة العشرون في حديث الجدة إنما كان لها السدس؛ لأنها أبعد رتبة من الأم والأب، فجعل لها أدنى حالتي الأم والأب وهو السدس، والفرق بينها وبين الابن (إذا انفردت تأخذ النصف، أن بنت الابن) تدلي بالبنوة، والجدة تدلي بالأمومة وهي أضعف من البنوة، وبينها وبين الإخوة للأم أن لهم الثلث إذا اجتمعوا وإن كان الجميع يدلى بالأم، وهذا أشكل من الأول، أن الأخ للأم يقول أنا ابن أمه (والجدة تقول أنا أم أمه) فالأول يدلى بالبنوة المقدمة على الأمومة، فهذه علل مقادير الفرائض (وحكمها وهي من أجل علم الفرائض) فتأملها. تفريع: الفروض المقدرة ستة: الثلثان، ونصفهما وهو الثلث، ونصفه وهو السدس، والنصف، ونصفه وهو الربع، ونصفه وهو الثمن. قال ابن يونس: المجمع على تورثيه (من الرجال) خمسة عشر: الابن، وابن الابن وإن سفل، والأب، والجد أبو الأب وإن علا، والأخ الشقيق، والأخ للأب، والأخ للأم، وابن الأخ الشقيق وإن بعد، وابن الأخ من الأب وإن بعد، والعم الشقيق، والعم للأب، وابن العم الشقيق وإن بعد، وابن العم للأب وإن بعد، وعمومة الأب وبنوهم داخلون في العمومة، والزوج، ومولى النعمة. ومن النساء عشرة: البنت، وبنت الابن وإن سفل، والأم والجدة للأم، والجدة للأب، والأخت الشقيقة والأخت للأب، والأخت للأم، والزوجة، ومولاة النعمة. وفي الجواهر من عدا هؤلاء كأب الأم وأمه، وأولاد البنات وبنات الإخوة وأولاد الأخوات وبني الإخوة للأم، والعم للأم وأولاده، والعمات والأخوال والخالات وأولادهم، وبنات الأعمام فهم ذوو أرحام لا شيء لهم. والمستحقون بالقرابة، منهم بغير واسطة وهم البنون والبنات والآباء والأمهات، ومنهم من يستحق بواسطة بينه وبين الميت، وهم أربعة أصناف: ذكر يتسبب بذكر وهم العصبة كبني البنين وإن سفلوا، والجد وإن علا، والأخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم وإن بعدوا ومن يتسبب من هؤلاء بأنثي فلا ميراث له كالجد للأم وبني الإخوة للأم وبني البنات ونحوهم، إلا الإخوة للأم لكن لا يرثون بالتعصيب. الصنف الثاني إناث يتسببون بإناث وهم اثنان فقط: الجدة للأم، والأخت للأم. الصنف الثالث: ذكور يتسببون بأنثي وهو واحد فقط الأخ للأم. الصنف الرابع: إناث يتسببون بذكور وهم ثلاثة فقط: الأخوات للأب، وبنات البنين، والجدة أم الأب. والوارثون بالسهام المقدرة ثلاثة أصناف: صنف لا يرث إلا بها وهم ستة: الأم، والجدة والزوج، والزوجة، والأخ للأم، والأخت للأم. وصنف يرثون بها وبالتعصب وقد يجمعون بينهما وهم اثنان: الأب والجد فيفرض لهما مع الولد أو ولد الابن السدس، وإن فضل شيء أخذاه بالتعصيب مع البنت. وصنف يرثون تارة بالفرض وتارة بالتعصيب ولا يجمعون بينهما وهم أربع: البنات، وبنات الابن، والأخوات الأشقاء، والأخوات للأب، لأنهن إذا كان معهن أخ لم يرثن بالفرض بل بالتعصيب، وكذلك بنات الابن يعصبهن ذكر إن كان معهن في درجتهن أو أسفل منهن، ويعصب الأخوات أربعة: الأخ في درجتهن، والجد، وبنات الصلب، وبنات الابن. فالنصف فرض خمسة: بنت الصلب، وبنت الابن مع عدمها، والزوج مع عدم الحاجب، والأخت الشقيقة، والأخت للأب مع عدم الحاجب. والربع فرض صنفين: الزوج مع وجود الحاجب، والزوجة والزوجات مع عدم الحاجب. (والثمن فرض صنف واحد وهو الزوجة مع وجود الحاجب). والثلثان فرض الابنتين فصاعدا، والأختين الشقيقتين أو للأب إذا انفردن. والثلث فرض الأم مع عدم الحاجب، والاثنين فصاعا من ولد الأم. والسدس فرض سبعة: الأب مع الحاجب، والأم مع الحاجب، والجدة للأب إذا انفردت أو مع أخوات شاركنها، والواحدة من بنات الابن فأكثر مع بنات الصلب، والأخت للأب فأكثر مع الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرا أو أنثى، والجد مع الولد أو ولد الولد. والفروض الخارجة عن المقدرة بالنص هي ثلث ما بقي في زوج وأبوين، وزوجة وأبوين، وللجد مع الإخوة إذا كان ثلث ما بقي عن ذوي السهام أفضل له. وفي الجواهر: هو قسمان: حجب إسقاط، وحجب نقل، وحجب الإسقاط لا يلحق من يتسبب للميت بنفسه، كالبنين والبنات والآباء والأمهات، وفي معناهم الأزواج والزوجات، ويلحق غيرهم، ونرتب الحجب على ترتيب المواريث فتقول: لا يحجب ابن الابن، والقريب من الحفدة يحجب البعيد، ولا يحجب الجد إلا الأب، والجد يحجب الأجداد الأبعد منه، ويحجب الإخوة الابن وابنه وإن سفل، والأب، ويحجب بني (الإخوة آباؤهم ومن حجبهم، ويحجب بني) العمومة آباؤهم ومن حجبهم ومتى اجتمع في طبقة قريب حجب الأبعد منه كالأخوة معه بنيهم، والعمومة مع بنيهم، وإن استووا في الطبقة والقرب ولأحدهم زيادة ترجيح بمعنى لجهة التعصيب قدم الأرجح، كالأخ الشقيق مع الأخ للأب، والعم الشقيق مع غير الشقيق، ويحجب الإخوة للأم عمود النسب لظاهر النص: الأب والجد والولد وولد الولد. وأما الإناث فيحجب بنات الابن الواحد من ذكور ولد الصلب، ويسقطن مع الاثنتين فصاعدا من بنات الصلب؛ لأنه لا يزاد البنات على الثلثين إلا أن يكون معهن ذكر في درجتهن أو أبعد منهم فيصرن عصبة به، ولا يسقط الأخوات الشقيقان إلا الأب لأنهن يدلين به، والابن وابن الابن لظاهر النص، ويحجب الأخوات للأب الواحد من الأشقاء ويسقطن بالشقيقتين إذا لم يكن معهن ذكر؛ لأن الأخوات لا يزدن على الثلثين وتسقط الجدات من أي جهة كن بالأم لأنها أقرب وبها تدلي وتسقط التي من جهة الأب لأنه فرع عمن يسقطها، وتسقط البعدي من جهة الأب بالقربى من جهة الأب لأنها فرع عمن يسقطها، وتسقط البعدي من جهة الأب بالقربى من جهة الأم، وفي الجعدية: إن اجتمعت الجدتان في درجة أو التي للأب أقرب فالسدس بينهما، ولا تحجب جدة الأب القريبة البعيدة من جهة الأم لأنها مورد النص النبوي، وجدة الأب فرع عليها فلم تحجبها، وفي الجواهر: ويحجب المعتق عصبة النسب لقوة القرابة، ويسقط إذا استغرقت الفرائض كسائر العصبات، وكذلك مولاة النعمة. وأما حجب النقل فثلاثة: نقل من فرض إلى فرض دونه، ومن فرض إلى تعصيب، ومن تعصيب إلى فرض. فمن الفرض إلى الفرض خمسة أصناف: الصنف الأول الأم ينقلها الولد ذكرا كان أو أنثى، وولد الابن واحدا فصاعدا، ولا والاثنان فصاعدا من الإخوة ذكورا أو إناثا من أي جهة كانوا من الثلث إلى السدس. فرع: في المنتقي مجوسي تزوج ابنته فأولدها ولدين أسلمت معهما ومات أحدهما، ففي العتبية للأم السدس؛ لأنه ترك أمه وهي أخته، وترك أخاه، وفي الجواهر. الصنف الثاني: الأزواج ينقلهم الولد وولد ذكورهم من النصف إلى الربع. الصنف الثالث: الزوجة ينقلها من الربع إلى الثمن من ينقل الزوج. الصنف الرابع: بنات الابن ينقل الواحدة عن النصف والاثنتين فأكثر عن الثلثين البنت الواحدة فوقهن فيأخذن السدس. الصنف الخامس: الأخوات للأب ينقلهن إلى السدس الأخت الشقيقة. ومن التعصيب إلى الفرض يختص بالأب والجد ينقلهما الابن وابنه إلى السدس، ولا يرثان مع هذين بالتعصيب، وكذلك إن استغرقت السهام المال يفرض لأبيهما كان السدس، كزوج وابنتين وأم وأب أو جد. ومن فرض إلى تعصيب كما تقدم في البنات وبنات الابن والأخوات الأشقاء أو للأب، وشذت مسألة تسمى: الغراء والأكدرية؛ لأنها انفردت وكدرت على زيد مذهبه، أو سئل عنها رجل يسمى الأكدر فأخطأ فيها، وهي زوج وأم وجد وأخت شقيقة أو لأب فمقتضى ما تقدم أن الجد يعصبها فلا يفرض له شيء، لكنه لما كان التعصيب القسمة معه، والقسمة هاهنا متعذرة؛ لأنها تنقص الجد من السدس ولا يمكن تنقيصه عنه، ولم يكن بد من أن يفرض لها النصف فتعول بنصفها فتصير تسعة فتأخذ ثلاثة أسهم من تسعة، وللجد سهم، ثم يقاسمها للذكر مثل حظ الأنثيين وأربعة على ثلاثة غير منقسمة ولا موافقة فيضرب ثلاثة في تسعة تبلغ سبعة وعشرين لها أربعة مضروبة (في ثلاثة باثني عشر للجد ثمانية ولها أربعة) ولهذه المسألة شرطان: أحدهما افتران الأنوثة لأن الأخ عاصب لا يفرض له. وثانيها انفرادها، فلو كان للميت أخت أخرى من جهة من الجهات انتقلت الأم للسدس ويبقى للأخوات سهم يقاسمهن الجد فيه ما لم تنقصه المقاسمة عن السدس، وتسمى أيضا الحمارية، سميت بذلك لقول الأشقاء لعمر رضي الله عنه - هب أن أبانا كان حمارا أليس نشارك الإخوة للأم في الأم، وتسمى المشتركة لمشاركة الأشقاء للأخوة للأم، وهي تتصور في زوج وأم أو جدة وإخوة لأم وأخ أو أخوة أشقاء، فللزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، فلم يبق للأشقاء شيء فيشاركون أخوة الأم في الثلث يقتسمونه على أنهم الجميع أخوة يتساوى الذكر والأنثى، ولها شرطان: أن يكون الأشقاء ذكورا أو مع إناث فلو انفرا الإناث فرض لهن، للواحدة النصف، وللاثنتين فصاعدا الثلثان، وأن يكونوا أشقاء فلو كانوا لأب لم يرثوا شيئا لعدم المشاركة في الأم، وفي المقدمات: متى فضل للأشقاء أو الإخوة للأب شيء (فلا يشاركونهن وإن كان أقل مما حصل لأخوة الأم) وفي المنتقى لها أربعة شروط: أن يكون فيها زوج، واثنان من ولد الأم، وأخ لأب وأم، ومعهم أم أو جدة فإن انخرم واحد لم تكن مشتركة. فرع: في الجعدية: من سقط لعلة فيه لرق أو قتل أو كفر لا يحجب، فيرث ابن الابن المسلم مع الابن الكافر، وكذلك بقية أنواع الورثة ولا يحجب، أما من سقط لأن غيره حجبه فقد يحجب لأن الإخوة للأم يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ويأخذ السدس الآخر الأب، (ولا يرثون ويحجبون الجد عن بعض ميراثه لمعادة الأشقاء بهم الجد ولا يرثون). فرع: قال ابن يونس: كل من يدلي بشخص حجبه ذلك الشخص، فتحجب الأم الجدة للأم، والأب الجدة للأب، والأم تحجب الجدتين لأنها أقرب، وإنما أورث الجدتان السدس لأنهما أم فقدمت الأم عليهما.
|